ربما نتفق جميعا حول الكثير والمثير والمبدع والجميل في الثقافة السودانية وما يسندها ويغذيها من إرث ثقافي ثر في كافة مجالات الحياة سواء كانت في الأدب أو الفن أو الموسيقى أو الشعر أو الجمال، إضافة للكثير من المورثات من القيم والمثل والعادات والتقاليد السودانية المتنوعة بتنوع مناطق السودان وتعدد قبائله وسحناته وثقافاته ولهجاته التي قلما توجد داخل بلد واحد.فلا ينقص السودان الموروث الحضاري المتجزر في عمق التاريخ منذ مملكة سنار ونبتة وحضارة مروي مرورا بالكثير من الحقب التي شكلت وجدان وثقافة الأمة السودانية التي تميزت بجميل الخصال ونبيل الصفات ومواقف الرجال .فلماذا إذن فشلنا في تصدير هذه الثقافة الجميلة والمميزة والمشبعة بالقيم والمثل النادرة إلى العالم من حولنا وظللنا شعب متلقي لثقافات الآخرين دون القدرة على تقديم ثقافته وحضارته لهم. وظلت كل موروثاتنا الجميلة حبيسة داخل أسوار الوطن ومكبلة وغير قادرة على المنافسة والخروج للفضاءات الخارجية الرحبة .
السنا نحن بلد العمالقة في كل شيء ، أليس من المؤسف أن يكون مثلا فنان بقامة العملاق محمد وردي او محمد الامين غيرمعروف جيدا لجيراننا واقرب الناس إلينا في مصر التي تشاركنا النيل ، بينما بناتنا وأولادنا يحفظون عن ظهر قلب أغاني فناني مصر الشباب مثل تامر حسني وعمرو دياب ومصطفى قمر ، السنا نحن من نفتخر بأن أم كلثوم تغنت بأغنية ” أغدا ألقاك ” للشاعر الكبير الهادي آدم ، ونعتبرها وسام على صدر الشعر السوداني الذي نال شرف الغناء المصري ، وإذا كنا نفتخر بهذه الغنية اليتيمة لهذا الشاعر الفذ فكيف لفنانينا الشباب المحليين أن يحلموا بالعالمية ، فهل نحلم باليوم الذي نرى فيه محي الدين اركويت يتغني في الـ mbc أو شكر الله عز الدين يصدح في روتانا طرب أو عصام محمد نور يشدو في LBC ؟ لماذا هذه الدونية وهذا الاستلاب وهذا التقوقع . أليس إخواننا اللبنانيون يتكلمون حتى على مستوى القنوات الكبيرة والبرنامج السياسة العامة بلهجة ممعنة في المحلية لكنها معروفة ومفهومة للكل ولكونها شائعة وطاغية وهي بالطبع مقبولة.
كل الجاليات العربية بسوق العمل الخليجي تتكلم بلهجتها ولا تستطع تغييرها أبدا ، فمن المستحيل أن تجد مصريا أو سوريا أو لبنانيا أو أردنيا يتكلم بلهجة غير لهجته بل يجبر الآخرين على مخاطبته بها، بينما تجد السوداني مغلوب على أمره ، أن حاول التحدث بلهجته المحلية كي يفرضها ويصدرها، نظر إليه الطرف الآخر باستغراب وحيرة واستفهام كأنه ( يرطن ) فيضطر( مسكينا ) أن يتركها ويخاطبه بلسانه هو ، فكم من السودانيين الغير مشبعين بالثقافة السودانية تحولوا مضطرين إلى سعوديين ومصريين وسورين وغيرهم حسب المجتمع الذين يعيشون فيه وهذا يدخل في باب الاستلاب الفكري والثقافي المميت .
السوداني في السعودية مثلا يخاطب بكلمة يا ( زول ) وتقال له أحيانا في غير موضعها أو بقالب فيه شيء من السخرية ولا يعرف الآخرين عن ثقافتنا إلا هذه الكلمة ( الكمونية ) ، كأن الثقافة السودانية عقرت إلا من هاتين الكلمتين ،بينما نحن نعرف عنهم كل شيء ، نعرف عاداتهم ووجباتهم وأغانيهم وتراثهم وأسماء نجومهم وقصص حبهم، لماذا ظلمنا نجومنا ومبدعينا بقوقعتهم في المحلية ، ألا يستحق عثمان حسين وإبراهيم عوض والكابلي أن يصدحون بأصواتهم الشجية وكلماتهمم الجميلة في الفضاءات الخارجية ، هل هم اقل من رصفائهم من الدول المجاورة، ألا يستحق العملاق الفاضل سعيد الذي افني عمره لإسعاد الشعب السوداني أن يسمع به في الخارج ، وهل هو اقل من نجيب الريحاني وعادل إمام في مصر ، لماذا يظل تراثنا الضخم في فن (الحقيبة) والمديح و( الدوبيت ) و( المسادير) مجرد منتجات محلية للاستهلاك الداخلي وغير قابلة للتصدير رغم ما تحمله من قيم اجتماعية رائعة ودينية فاضلة . الم يفلح غيرنا في تصدير مثل هذه الثقافات لنا عبر آلاتهم الإعلامية النافذة فصرنا نعرف ثقافاتهم وحفظنا وجباتهم الشعبية مثل (الكشري) و ( المفتقة ) و( العيش بالدقة ) عندما يمثلون الفقر ،الم نعد نفهم اللهجة الشامية المحلية رغم صعوبة مفرداتها مثل( هيك ) و( شو ها الحكي يا زلمي ) و( و مش حا اقدر اجيلك ابنوب ) و ( شو بدك ) ولا زالوا هم يفتحون افواهم عندما نقول لهم كلمة ( شنو ) أو ( داير شنو يا جنا) ، أو ( زح لي قادي ) أو ( أرجاني بكدي ) او ( تر لي جاي ) أو ( براهو ) ، (بيني وبينكم دي صعب تصديرها ) 0
أخوتي يجب أن نعترف بإخفاقنا الشديد في تصدير ثقافتنا خارج حدود الوطن وكم تعاني جالياتنا في الخارج من الانعزال والانطواء حول بعضها دون محاولة الدخول في الآخرين لصعوبة فهمهم لنا ، نحن متفردين ومميزين في أشياء وعادات وممارسات كثيرة هذا لا شك فيه ولكننا منعزلين ومحليين، من منا لا يحب ( الكسرة بالملوخية ) ولكن لو قدمناها لشخص عربي آخر ربما يشمئز أو ( يقرف ) منها للوهلة الأولى ، لكن لو قدمت كما أسلفنا من خلال عمل فني أو درامي بصورة ايجابية ، ستجد الكل يقف في صفوف شراء الكسرة .
فيجب أن نلتفت جميعا لمعاناة الثقافة والحضارة السودانية من الانعزال والمحلية بسبب ضعف الإعلام المؤثر الذي يجب أن تقدم من خلاله كوجبات خفيفة من خلال البرامج والمسلسلات وغيرها0